أفضل دفاع عن الجسم هو النشاط
كيف يمكن لشيء يساعد على علاجنا أن يجعلنا مرضى أيضاً؟ يعتمد ذلك الأمر على مدة استمرار الالتهاب.
يسبب الإجهاد حالات الالتهاب، فإذا كان هذا الإجهاد إصابة مرضية، ينشِّط الجهاز المناعي الاستجابة الالتهابية؛ إذ تُحبَط الأجسام المتطفلة، ويعود الجسم إلى وضعه الطبيعي، لكن عندما يستمر الإجهاد ولا يستطيع الجهاز المناعي القضاء عليه، لن يتوقف الالتهاب أبداً وستصبح العملية التي يجب أن تكون مؤقتةً دائمةً.
يُنظَّم الالتهاب عن طريق مواد بروتينية تسمى السيتوكينات، وهي بروتينات تُصنِّعها الخلايا المناعية للتواصل مع بعضها بعضاً، وتُنتج هذه المواد الكيميائية الالتهابية استجابة لحالات الزكام أو الإنفلونزا؛ إذ نشعر بالألم والإرهاق لبضعة أيام حتى يستعيد الجهاز المناعي قوته وفاعليته.
يُعتقد أنَّ انفجار السيتوكينات، الذي يُطلق عليه “عاصفة السيتوكين”، هو أحد الأسباب الرئيسة في وفيات فيروس كورونا، وفي الأساس إنَّ إطلاق الاستجابة المناعية الخاطئة التي يسببها فيروس كورونا، إضافة إلى مجموعة من الأمراض المرافقة الأخرى التي تضعف أيضاً جهاز المناعة، هي التي تقتل الناس.
يمكن أن تتحفز السيتوكينات أيضاً استجابة للقلق أو الاكتئاب؛ لكنَّها لا تساعد أبداً؛ وإنَّما تؤذي فقط، ولهذا السبب يشعر الأشخاص المصابون بالتهاب مزمن بالألم والإرهاق دائماً.
لكنَّ الالتهاب المزمن هو أكثر من مجرد إزعاج، وفي العقود الأخيرة اكتشف الباحثون أنَّ هذه العملية البطيئة المستمرة للسيتوكينات تحدث بسبب مجموعة من الأمراض، مثل مرض ألزهايمر والتهاب المفاصل الروماتيزمي والربو، وأنواع معينة من السرطان والسكري وأمراض القلب والسمنة وهشاشة العظام، والاضطرابات النفسية مثل القلق والاضطراب ثنائي القطب والاكتئاب وانفصام الشخصية واضطراب ما بعد الصدمة.
هذا الفهم الجديد للالتهاب هو أحد أهم الاكتشافات في الأبحاث المتعلقة بالصحة خلال السنوات الأخيرة، بحسب ما ذكره الدكتور جورج إم سلافيتش (Dr. George M. Slavich)، مدير مختبر تقييم الإجهاد والبحوث (Stress Assessment and Research) في جامعة كاليفورنيا – لوس أنجلوس (University of California–Los Angeles).
كتب سلافيتش في مقال نُشِرَ في شهر آذار (مارس) من عام 2015 في مجلة برين بيهيفيور إميونيتي (Brain Behavior Immunity): “إجمالاً، يرتبط الالتهاب بثمانية أسباب رئيسة من أصل عشرة لحالات الوفاة في الولايات المتحدة (United States) اليوم، إنَّ فهم الطريقة التي يُعزز بها الالتهاب سوء الصحة، وكيف ومتى يمكننا التدخل لتقليل مخاطر الأمراض المرتبطة بالالتهاب، يجب أن يكون أولويةً علميةً وعامةً”.
الإجهاد المستمر والشيخوخة السريعة:
يشير معظم الباحثين إلى الإجهاد المستمر المرتبط بالحياة الحديثة بوصفه السبب الرئيسي في ظهور الالتهاب المزمن، ومن هؤلاء الباحثين الدكتور ويليام مالاركي (Dr. William Malarkey)، الأستاذ الفخري في الطب الباطني ومدير الأبحاث السريرية في مركز العلوم السريرية والتحويلية في مركز ويكسنر الطبي بجامعة ولاية أوهايو (Center for Clinical and Translational Science at Ohio State University Wexner Medical Center).
يقول الدكتور مالاركي: “عندما نضطر إلى تحمُّل الإجهاد المستمر، فإنَّ نظام الغدد الصماء لدينا يكون في حالة تأهُّب قصوى، ويبدو الأمر كما لو أنَّ الجسد يستعد لمواجهة هذا الإجهاد”.
خلال فترات الإجهاد الطويل، يبدو أنَّ الناس يتقدمون في السن أمام أعيننا، مثل الرؤساء الذين يقضون فترات طويلة في عملهم، والأزواج الذين يعانون فكرة الانفصال، أو أولئك الأشخاص الذين يتحملون وفاة أحد أفراد أسرتهم؛ فنحن كائنات قادرة على التحمل؛ لذلك يمكن لأجسادنا أن تتعافى بعد المرور بفترة عصيبة، لكن عندما لا يتوقف الإجهاد، وتقل قدرتنا على التعافي، يؤدي الالتهاب في النهاية إلى الإصابة بالأمراض.
يقول الدكتور مالاركي: “لم تحدث نوبتك القلبية للتو، لقد بدأت قبل 20 أو 30 عاماً وفق هذه العملية”.
شاهد: 8 عادات يومية من أجل صحة قوية
بناء القدرة على التحمل:
إنَّ الإجهاد حقيقة من حقائق الحياة، لكن لماذا يتعامل بعض الناس مع الأوقات الصعبة بصورة أفضل من غيرهم؟ عند دراسة الاستجابة للإجهاد، حدَّد الدكتور مالاركي خمسة مجالات تقي من الشدائد، ويسمي ذلك بنموذج ريماب (REMAP)، ويرمز كلُّ حرف إلى:
R: يشير إلى المشاركة الترابطية (relational engagement): الترابط مع أفراد الأسرة والأصدقاء.
E: يشير إلى الحساسية العاطفية (emotional sensibility): الحياة العاطفية الصحية.
M: يشير إلى المشاركة الهادفة (meaningful engagement): الرضى والمعنى في مختلف جوانب الحياة.
A: يشير إلى الوعي بالذات والآخرين (awareness of self and others): يشمل التصورات والأفكار التي تؤثِّر في شعورنا تجاه أنفسنا وطريقة تواصلنا مع الآخرين.
P: يشير إلى سلوكات الصحة الجسدية (physical health behaviors): ويعني الحصول على تغذية جيدة، وممارسة التمرينات الرياضية بانتظام، والنوم الجيد، والامتناع عن التدخين وتناول المواد الضارة الأخرى.
يقول الدكتور مالاركي: “كلَّما كنَّا أقوى في الحفاظ على هذه المجالات، كانت قدرتنا على تحمل الإجهاد أفضل، وإذا فشلنا سيُنشَّط جهازنا المناعي”، ولحسن الحظ، إنَّ التغيير أمر ممكن، فقد أظهرت الأبحاث أنَّه عندما يعمل المرضى على تحسين هذه المجالات الخمسة، يمكنهم منع آثار الإجهاد المزمن.
يقول أيضاً: “بمجرد التفكير بطريقة صحيحة، يمكنك التخلي عن السيتوكينات في جهازك المناعي، وستبدأ هذه المادة الالتهابية في الانخفاض، لقد تمكنَّا من تقليل عوامل الخطر المرتبطة بأمراض القلب من خلال بعض الممارسات اليومية لتأمل اليقظة الذهنية”.
تطوير عقلية مضادة للالتهابات:
لقد أدى الوعي المتزايد بهذا النموذج الالتهابي للمرض إلى ظهور مكملات مضادة للالتهابات لعلاجه، مثل كبسولات الكركم وزيت السمك، وقد تبيَّن أنَّ هذه التدخلات تحدُّ من الالتهاب؛ لكنَّ تأثيرها ضئيل مقارنة بتأثير الدماغ.
يقول الدكتور مالاركي: “من غير المحتمل أن يُحدَِث أيُّ مكمل غذائي فرقاً كبيراً عندما يكون لديك هذا الكم الهائل القادم من دماغك كلَّ يوم، وأعظم تدخل هو أن يكون لديك شيء يحميك من الإجهاد؛ إذ تساهم معظم العوامل النفسية في قدرتنا على تحمل الإجهاد، لكنَّ الشعور بالهدف يؤدي دوراً رئيساً في ذلك”.
يتضمن ذلك غالباً الأنشطة التي تجعلنا نشعر بأنَّنا جزء من شيء أكبر، مثل الممارسات والمساهمات الإيجابية ومساعدة الأشخاص المحتاجين.
تُعدُّ قوة علاقاتنا عاملاً رئيساً آخر في طريقة تعاملنا مع الإجهاد؛ إذ يقول الدكتور مالاركي: “إنَّ الشعور بالوحدة يمكن أن يكون ضاراً بصورة خاصة، وعاملاً رئيساً في تدهور الصحة أو المرض”.
يبدأ أساس القدرة على تحمل الإجهاد (أو عدم القدرة) في مرحلة مبكرة من الحياة؛ ففي دراسة نُشرت في عام 1999، وجد الباحثون أنَّ صغار الفئران حديثي الولادة الذين أُخِذوا من أمهاتهم في الأسبوع الأول من حياتهم، طوروا كيمياء دماغ مختلفة عن الفئران التي كانت توجد بقرب أمهاتها.
خلال أسبوع واحد فقط دون تواصل، ارتفعت مستويات هرمون الكورتيزول المرتبط بالإجهاد عند الفئران، وأصبح من غير الممكن إيقافها، لقد عُثِرَ على كيمياء دماغية مماثلة لدى البشر الذين عانوا خللاً في طفولتهم وانتحروا في مرحلة لاحقة من حياتهم، وقد توقفت مستقبلاتهم للجلوكوكورتيكويد (هرمون قشري سكري) عن العمل، وهو الهرمون الذي يوقف إنتاج الكورتيزول.
وفقاً لبحث الدكتور مالاركي: “إنَّ الأشخاص الذين يتأقلمون مع الإجهاد جيداً هم الأشخاص الذين يتمتعون بحياة اجتماعية نشطة وعلاقات قوية، كما أنَّهم متفائلون عاطفياً ويشاركون دائماً في تعلُّم أمور جديدة، وينامون جيداً لأنَّ مستوى قلقهم منخفض جداً، ويشاركون في نوع من التمرينات المنتظمة”.
شاهد أيضاً: 7 نصائح لتغذية صحية سليمة
الطعام والتمرينات الرياضية:
ما تأكله ومقدار حركتك يمكن أن يكون لهما تأثير كبير في استجابة جسمك للالتهاب، يقول الدكتور مالاركي: “يُعدُّ الطعام مُنظماً فعالاً لميكروبيوم الأمعاء، وهو منظم التهابات ضخم في الجهاز المناعي، ويمكن أن تؤثِّر التغذية في التغيرات التي تحدث في الخلايا”.
يشتهر كلٌّ من السكر والأطعمة المقلية والزيوت النباتية الغنية بأحماض أوميغا 6 الدهنية بأنَّها تساهم في الالتهابات، بينما تساعد الفواكه والخضروات الطازجة والأطعمة الغنية بأحماض أوميغا 3 الدهنية في إيقاف الاستجابة الالتهابية.
كما تؤدي الرياضة دوراً أساسياً في تنظيم الالتهاب؛ ولكنَّها قد تكون إحدى أصعب العادات التي يجب اتباعها؛ إذ يعد الألم والإرهاق من أهم الشكاوى بين الأشخاص المصابين بالتهاب مزمن، فلا أحد يرغب في التحرك عندما يشعر بالألم والإرهاق، لكنَّ بذل جهد قليل لممارسة التمرينات الرياضية بانتظام يمكن أن يكون له تأثير كبير على الأمد الطويل.
تؤدي التمرينات في البداية إلى حدوث الالتهاب؛ لأنَّها تسبب إجهاداً في الجسم، ولكنَّ هذا الأمر يختفي بمجرد الانتهاء من التمرين، ومع مرور الوقت يساعد هذا النشاط المنتظم على تقليل الالتهاب المزمن؛ إذ تساعد التمرينات الجسم على تحمُّل الإجهاد جيداً، كما ينصح الخبراء بالجمع بين التمرينات الهوائية الخفيفة وتدريب حمل الأثقال أو تمرينات المقاومة لتقليل الالتهاب بصورة أفضل.
إذا لم يُحفزك ذلك على الحركة، فضع في حسبانك أنَّ الجسم غير الصحي يصبح أكثر كفاءةً في إنشاء حالات الالتهاب، كما أنَّ حدوث انتفاخ في البطن ليس أمراً سيئاً فحسب؛ وإنَّما يتطور في الواقع ليصبح غدةً إضافيةً، ممَّا يزيد من تعقيد نظام الغدد الصماء الذي يعاني مسبقاً من خلل وظيفي.
المصير الوراثي والمسؤولية الشخصية:
لاحظ الباحثون منذ خمسينيات القرن الماضي الاستجابات السلوكية واستجابات الغدد الصماء للإجهاد، وعلى الرَّغم من أنَّ فكرة الالتهاب قد اكتسبت زخماً في المجتمع الطبي في السنوات الأخيرة بِوصفها سبباً أساسياً للأمراض المزمنة، إلا أنَّ هذا المفهوم يتعارض مع الفكرة السائدة بأنَّ المصير الوراثي يقرر من يمرض ومن لا يمرض.
لكنَّ الدكتور مالاركي يقول: “إنَّ الجينات وحدها لا تمثل الحقيقة كاملةً؛ إذ تشغل هذه الفكرة أذهان معظم الناس، إنَّها ليست الجينات؛ وإنَّما حقيقة أنَّنا جميعاً قلقون، ونأكل بالطريقة نفسها، ويتعلق الأمر ببيئتك، فهذه الأمور تغير طريقة التعبير عن الجينات؛ وهذا هو السبب وراء إصابة معظم الأشخاص بأمراض القلب”.
في الختام:
تمرَّن وتناول طعاماً صحياً وكوِّن صداقات واحصل على قسط كافٍ من النوم، وحاول ألا تقلق وحقق أهدافك في الحياة؛ فيبدو أنَّ نموذج ريماب (REMAP) مشابه كثيراً للنصائح الصحية المنطقية والتي لطالما قدمها الأطباء على مر العصور، لكن بالنسبة إلى الدكتور مالاركي، فهذا دليل على أنَّه يسير على الطريق الصحيح.
يقول: “في رأيي، تتضمن الأنظمة التقليدية للطب جميعها العمليات نفسها التي أضعها الآن في علم النفس المعاصر والعلوم الأساسية وعلم الأحياء؛ فيجب على كلِّ ثقافة إعادة تفسير هذه الأمور بطريقتها الخاصة، والاستمرار في اكتشاف ذلك في ظل القضايا المعاصرة التي تواجهنا، وإلا فإنَّنا سنفقد المغزى”.
اكتشاف المزيد من موقع تدخين الطبخ
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.