الثقافة الصحية

هل تُسبِّب مسكنات الألم مزيداً من الألم؟


“إنَّ الألم هو تجربة شبه عالمية”، هذا ما أكَّده مؤلفو المراجعة المنهجية عن فهم الطب الغربي لأساسيات الألم في عام 2019، ونظراً لأنَّ معظمنا يعانون ألماً كبيراً، يبحث ممارسو الرعاية الصحية في كلِّ بلد دائماً عن طرائق لمساعدة مرضاهم على التخفيف من حدته.

ألمٌ شديد:

بيع مسكنات الآلام هو أيضاً تجارةٌ تجني مليارات الدولارات؛ إذ تُظهر البيانات الواردة من إدارة مكافحة المخدرات (Drug Enforcement Administration) أنَّ أكبر شركات الأدوية الأمريكية قد أنتجت 76 مليار حبة مسكن ألم أفيوني بين عامي 2006 و2012 فقط وفقاً لتحقيق أجرته صحيفة واشنطن بوست (Washington Post).

تُحفز شركات الأدوية الأطباء بشدة على معالجة الألم وضبطه من أجل تعزيز أرباحهم، وقد نجحت شركة “بيغ ميديسين” (Big Medicine) خاصة في بيع المواد الأفيونية التي تسبب الإدمان للناس، وحصلت بذلك على عملاء أوفياء مدى الحياة.

ماذا عليك أن تفعل عندما تشعر بالألم؟

تُريدك شركات الأدوية أن تتناول الحبوب المسكنة للألم، سواء كانت تلك الحبوب أدوية بوصفة طبية أم دون وصفة طبية؛ فهذه الحبوب سوف تخفف من آلامك وتحلُّ المشكلة.

لكنَّ الأمر ليس بهذه البساطة؛ إذ تشير دراسة جديدة بعنوان “تحمي الاستجابة الالتهابية الحادة من تطور الألم المزمن عبر تنشيط العَدِلات (neutrophil)” إلى أنَّ اثنين من الأدوية المضادة للالتهابات غالباً ما يُستخدمان لعلاج الألم المزمن، قد يزيدان الألم سوءاً.

ربطت البيانات السريرية التي جُمعت لهذه الدراسة بين استخدام الأدوية المضادة للالتهابات وزيادة مخاطر الإصابة بالألم المستمر على العلاج، وإذا كانت هذه المعلومات صحيحةً وقابلةً للإثبات؛ فإنَّها تشير إلى أنَّ مسكنات الألم التي تتناولها قد تؤدي في الواقع إلى تفاقم الألم.

هل تعاني ألماً مزمناً؟

إنَّ آلام أسفل الظهر المزمنة هي أشيع حالات الآلام المزمنة التي يُبلَّغ عنها باستمرار؛ إذ تُصيب آلام أسفل الظهر المستمرة ما يقرب من 8% من البالغين الأمريكيين؛ أي 16 مليون شخص.

يعاني 15 مليون أمريكي آخر آلام المفاصل الحادة المرتبطة بالتهاب المفاصل، وأبلغ نصفهم تقريباً عن آلام مستمرة، إضافة إلى ذلك، يصيب الألم العضلي الليفي، وهو حالة تتميز بألم مزمن وإرهاق شديد في أنحاء الجسم كلِّه، ما يقرب من 2% من البالغين الأمريكيين؛ وذلك وفقاً لمركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC).

يعني ذلك أنَّ عدداً هائلاً من الناس يعانون ألماً شديداً، لكن على الرَّغم من أنَّ ملايين الناس يعانون الألم المستمر، إلا أنَّه حتى الآن لم يُعرف كثيراً عن كيفية تحول الألم الحاد – هو ألمٌ مفاجئ وحاد لمرة واحدة، والذي غالباً ما يكون بمنزلة إشارة تحذير لجسمك بأنَّ شيئاً ليس على ما يرام – إلى ألم مزمن، ويُعتقد حالياً أنَّ الألم المزمن هو تفاعلٌ معقد بين الجهاز العصبي المركزي وجهاز المناعة.

تُقدم هذه الدراسة الجديدة المنشورة في مجلة “ساينس ترانزليشنل ميديسن” (Science Translational Medicine) بعض الأدلة الجديدة المدهشة التي قد تُحدِث ثورة في الطريقة التي نفكر بها في الألم الحاد والمزمن ونعالجه.

شاهد أيضاً: 7 طرق للتخلص من حرقة المعدة دون أدوية

 

بحثٌ جديد: كيف يصبح الألم الحاد مزمناً؟

بقيادة الأطباء جيفري موغيل (Jeffrey Mogil) ولودا دياتشينكو (Luda Diatchenko) من جامعة ماكجيل (McGill) في مونتريال في كندا، والطبيب الإيطالي ماسيمو أليجري (Massimo Allegri)، أجرى فريق من عشرين عالِماً سلسلة من التجارب التي تهدف إلى إلقاء الضوء على الآليات الفيزيولوجية المسؤولة عن تطور الألم الحاد إلى ألمٍ مزمن.

فقد قاموا بتحليل التعبيرات الجينية لـ 98 شخصاً يعانون آلاماً حادة أسفل الظهر في فترةٍ زمنية معينة، ثم مرةً أخرى بعد ثلاثة أشهر؛ ففي التقييم الأول، صنَّف المشاركون آلامهم بمتوسط ​​6.8 على مقياس من 0 إلى 10؛ إذ كان الحد الأدنى هو 4 والحد الأقصى 10، وأول شيء لاحظه الباحثون في التقييم الآتي هو أنَّ المتوسط ​​قد انخفض إلى 3.2؛ لكنَّ نطاق الألم قد توسع وأصبح من 0 إلى 10.

ثم قام العلماء بتقسيم المشاركين إلى مجموعتين من 49 شخصاً بناءً على تصنيفات الألم عند التقييم الثاني، عُدَّت المجموعة ذات متوسط ​​الألم الأقل على أنَّها عولجت من الألم، أمَّا المجموعة التي أبلغت عن ألم أشد في التقييم الثاني فصُنِّفت على أنَّها مصابةٌ بألم مستمر، ثم وازن الباحثون التعبير الجيني بين المجموعتين خلال زيارتين.

ففي الزيارة الأولى، لم تكن هناك فروقاتٌ ملحوظة في التعبير الجيني وصلت إلى أهميةٍ إحصائية على مستوى الجينوم بين المجموعتين، لكن في الزيارة الثانية، أصبح الأمر مثيراً للاهتمام؛ فقد كان هناك أكثر من 1700 جيناً معبِّراً عنها تعبيراً مختلفاً على مستوى كامل الجينوم.

كانت الجينات الالتهابية بشكل عام أكثر نشاطاً في بداية الدراسة وأقل نشاطاً في نهايتها بالنسبة إلى المجموعة الأولى، بينما لم تُلاحظ أيَّة تغييرات في المجموعة الثانية؛ بعبارةٍ أخرى، كان هناك شيء ما يحدث في أجساد الأشخاص الذين تلاشت آلامهم، ولم يكن يحدث لدى المرضى الذين يعانون ألماً مستمراً.

نظر العلماء على وجه التحديد في أنواع عديدة من الخلايا المناعية بسبب التغيرات في مستوى التعبير الجيني المتعلق بمسارات الالتهاب؛ فوجدوا اختلافات كبيرة بين المجموعتين في خلايا معينة: وهي العَدِلات والخلايا التائية ذات المستضد “CD8” والخلايا القاتلة الطبيعية والخلايا البدينة.

كان التأثير واضحاً خاصة في العَدِلات، وهي نوع من كريات الدم البيضاء التي تُستدعى إلى المناطق التي تتأذى فيها الأنسجة، بينما انخفضت العَدِلات في المجموعتين كلتيهما، وكان لدى المرضى في المجموعة الأولى مستويات أعلى بكثير من العَدِلات في البداية، وشهدوا انخفاضاً أكثر حدة طيلة الأشهر الثلاثة.

ألم الفك:

قرر العلماء تكرار تحليلهم على مجموعة من الأشخاص الذين يعانون الاضطرابات الفكية الصدغية لمعرفة ما إذا كانت نتائجهم صحيحة فيما يتعلق بالألم المزمن.

إنَّه اضطراب شائع ومتزايد، ويؤثِّر فيما يصل إلى 15% من البالغين؛ إذ يشير هذا الاضطراب إلى ألم الفك المرتبط بالعضلات والمفاصل والأعصاب حول الفك، وتراجعت آلام هذا الاضطراب عند بعض المشاركين بعد مرور ثلاثة أشهر تماماً، كما كان الحال مع مرضى آلام الظهر، كما أنَّ نحو 80% من الجينات المرتبطة بالعَدِلات، قد عُبِّر عنها في المجموعات التي عولجت من آلام أسفل الظهر وخلل المفصل الفكي الصدغي.

تعني كلُّ هذه التفاصيل أنَّ الاستجابة الالتهابية الأولية هامةٌ جداً في علاج الألم الحاد، ولاختبار ما إذا كان هذا هو الحال بالفعل، أجرى العلماء تجارب أخرى على الفئران.

تزيد حقن الستيرويد الألم بمرور الوقت:

لقد جرحوا الفئران لجعلها تشعر بالألم، ثم حقنوا بعضها بعقار ديكساميثازون (Dexamethasone)، وهو ستيرويد قوي مثبط للمناعة لمدة ستة أيام، بينما حقنوا الفئران الأخرى بدواء وهمي، كان في هذه الحالة حقنة ملحية.

لقد أظهر الديكساميثازون تأثيرات إيجابية في علاج مرضى فيروس كورونا (كوفيد-19)، وقد أوصت معاهد الصحة الوطنية الأمريكية (The National Institutes of Health) في دليل إرشادي علاجي حُدِّث في كانون الأول/ديسمبر 2021، باستخدامه أو غيره من الستيرويدات الجهازية بوصفه علاجاً فعالاً لكلٍّ من مرضى فيروس كورونا الذين دخلوا أو لم يدخلوا المستشفى.

لكنَّ النتائج كانت سيئة بالنسبة إلى الفئران التي حُقنت بالستيروئيدات؛ إذ ازداد الألم بمرور الوقت؛ ولاختبار ما إذا كان ذلك بسبب الطبيعة المضادة للالتهابات للديكساميثازون أم بسبب بعض المكونات الأخرى في علاجات تخفيف الآلام، اختبر العلماء أيضاً الديكلوفيناك (Diclofenac) وهو مضاد التهاب غير ستيروئيدي، وثلاثة مسكنات ألم لا تحمل تأثيراتٍ معروفة مضادة للالتهابات، وهي غابابنتين (Gabapentin)، ومورفين (Morphine)، وليدوكائين (Lidocaine)؛ تبين أنَّ مضاد الالتهاب الديكلوفيناك وحده فقط أطال إطالة ملحوظة من آلام القوارض.

شاهد أيضاً: 8 أمراض مستعصية يُحاربها زيت الزّيتون

 

هل الالتهاب مفيد؟

خفف العلاج المبكر – في تجارب الفئران – باستخدام مضادات الالتهاب الستيرويدية وغير الستيرويدية من الألم على الأمد القصير؛ ولكنَّه أدى إلى ألمٍ مزمن على الأمد الطويل.

إضافة إلى ذلك، عندما قتل العلماء عمداً العَدِلات في القوارض بحقن جسم مضاد، عانت الفئران أيضاً ألماً طويل الأمد؛ لذا إنَّ الالتهاب مؤلم؛ لكنَّه ضروريٌّ لجسمنا لعلاج الألم؛ فعلاج الألم هو عملية نشطة وتتطلب تنشيط العَدِلات.

الخلاصة من كلِّ هذا: إنَّ تقليل الالتهاب الحاد، سواء باستخدام الستيروئيدات أم باستخدام مضادات الالتهاب غير الستيروئيدية، قد يكون له آثار سلبيةٌ طويلة الأمد، وتُشير هذا الاكتشافات إلى أنَّ العَدِلات، والتي تتثبط بوسائل تخفيف الألم، قد تكون ضروريةً جداً لمنع تطور الألم طويل الأمد.

لكن ماذا عساك أن تفعل عندما تشعر بالألم؟

بينما تُفضل المدارس الطبية الغربية علاج الألم بالمسكنات، فإنَّ طرائق الشفاء الأخرى، ومن ذلك الطب الصيني التقليدي، والطب الهندي القديم، والطب الغربي البديل، تحاول تسكين الألم من خلال معالجة كلٍّ من العقل والجسد.

إذا كانت طفلتك البالغة من العمر 12 عاماً تُعاني آلاماً في المعدة، فإنَّ الألم الحقيقي قد يكون سببه نفسياً، مثل مشكلة مع مدرِّس أو صديق في المدرسة على سبيل المثال، أو قد تكون آلام البطن مرتبطة بالهرمونات أو بالنظام الغذائي؛ لذا سيكون العلاج في هذه الحالة بدلاً من مسكنات الألم هو حلُّ المشكلات المدرسية، والامتناع عن تناول الأطعمة المصنعة التي تسبب المشكلة، وكذلك إجراء تغييرات في نمط الحياة حتى لا تتعرض طفلتك للكثير من المواد الكيميائية التي تُخلُّ بوظائف الغدد الصماء.

بالنسبة إلى زوجتك التي تعاني الألم، قد يكون الوخز بالإبر هو أول شيء يجب تجربته؛ فقد ثبت أنَّ هذه العلاجات فعالةٌ في تخفيف كلٍّ من الصداع وآلام الظهر.

ضع في حسبانك ما يأتي: أظهر تحليل شمولي عن استخدام الوخز بالإبر لتخفيف الألم المزمن، والمنشور في مجلة جاما إنترنال ميدسين (JAMA Internal Medicine)، أنَّ الوخز بالإبر مفيدٌ في علاج آلام أسفل الظهر والصداع والتهاب المفاصل، كما ثبت أنَّ له فوائد صحية أخرى، ومن ذلك تحسين ضغط الدم ووظائف المخ.

المثير للاهتمام أيضاً هو أنَّ دراسات عديدة، ومن ذلك دراسة العلاج الوهمي عمياء أجريت في ألمانيا، اكتشفت أنَّ الوخز بالإبر يزيد من نشاط العَدِلات.

وماذا عن ألم المرفق الذي تعاني منه؟ إذا كان سبب ذلك بالفعل هو الإفراط في الكتابة، فيمكنك تخفيفه عن طريق علاجات الوخز بالإبر والتدليك وإعداد مكتب أكثر راحة، ولقد ثَبُتَ أنَّ تمرينات تاي تشي أيضاً فعالةٌ في تحسين مرونة الورك والألم الناجم عن التهاب المفاصل.

تمرينات فالون غونغ:

وُجِدَ فيما مضى تحليل كيميائي حيوي لدم ستة آسيويين يمارسون تمرينات فالون غونج؛ وهو نمط صيني قديم من تمرينات تشي غونغ، وقد كان لهذه الممارسة تأثير إيجابي في نشاط العَدِلات موازنة بستة آسيويين لم يشاركوا في هذه الممارسة.

من السهل نظرياً تلقي حقنة ستيرويد أو تناول الحبوب المسكنة للألم؛ لكنَّ تحديد الأسباب الجذرية وتبنِّي الأساليب غير الدوائية لعلاج الألم المزمن، قد تكون حلولاً أكثر فاعلية على الأمد الطويل.


اكتشاف المزيد من موقع تدخين الطبخ

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من موقع تدخين الطبخ

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading